فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فابعثوا} أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين {حُكْمًا} أي رجلًا عدلًا عارفًا حسن السياسة والنظر في حصول المصلحة {مّنْ أَهْلِهِ} أي الزوج، و{مِنْ} إما متعلق بابعثوا فهو لابتداء الغاية، وإما بمحذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض {وَحَكَمًا} آخر على صفة الأول {مّنْ أَهْلِهَا} أي الزوجة، وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كلّ من حب وبغض وإرادة صحبة أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصبا من الأجانب جاز، واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك؟ فقيل لهما وهو المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير، وبه قال الشعبي فقد أخرج الشافعي في الأم والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال: جاء رجل وامرأة إلى علي كرم الله تعالى وجهه ومع كل واحد منهم فئام من الناس فأمرهم علي كرم الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلًا حكمًا من أهله ورجلًا حكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي كرم الله تعالى وجهه: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية: {وَإِنْ خِفْتُمْ} إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلًا صالحًا من أهل الرجل ورجلًا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي، وقيل: ليس لهما ذلك، وروي ذلك عن الحسن.
فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، وأما الفرقة فليست بأيديهما، وإلى ذلك ذهب الزجاج، ونسب إلى الإمام الأعظم، وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال: للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابًا عما روي عن ابن عباس، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر.
وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم، وعن الشافعي روايتان في المسألة، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه، (ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها)، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك.
وقال ابن العربي في [الأحكام]: إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحَكَم اسم في الشرع له. اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رضي الله عنه: المستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين، والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها، لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب، وأشد طلبًا للصلاح، فإن كانا أجنبيين جاز.
وفائدة الحكمين أن يخلو كل واحد منهما بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال، ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح، أو في المفارقة، ثم يجتمع الحكمان فيفعلان ما هو الصواب من إيقاع طلاق أو خلع. اهـ.

.قال القرطبي:

قال العلماء: قَسّمت هذه الآيةُ النساءَ تقسيمًا عقليًّا؛ لأنهنّ إمّا طائعة وإما ناشز؛ والنشوز إما أن يرجع إلى الطّواعِية أوْ لا.
فإن كان الأوّل تُرِكَا؛ لما رواه النّسائِي أن عَقِيل بن أبي طالب تزوّج فاطمةَ بنتَ عتبة بن ربيعة فكان إذا دخل عليها تقول: يا بني هاشم، واللَّهِ لا يحِبكم قلبي أبدًا! أين الذين أعناقهم كأباريق الفِضة! تُرَدّ أُنوفهم قبل شِفاهِهِم، أين عُتبةُ بن ربيعة، أبن شَيْبة بن ربيعة؛ فيسكت عنها، حتى دخل عليها يومًا وهو بَرِمٌ فقالت له: أين عُتبة بن ربيعة؟ فقال: على يسارك في النار إذا دخلت؛ فنشرت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك؛ فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأُفرقنّ بينهما؛ وقال معاوية؛ ما كنت لأُفرّق بين شيخين من بني عبد مناف.
فأتياهما فوجداهما قد سدّا عليهما أبوابهما وأصلحا أمرهما.
فإن وجداهما قد اختلفا ولم يصطلِحا وتفاقم أمرهما سَعَيَا في الأُلفة جهدهما، وذَكّرا بالله وبالصحبة.
فإن أنابَا ورجعا تركاهما، وإن كانا غير ذلك ورأيا الفرقة فرّقا بينهما.
وتفريقهما جائز على الزوجين؛ وسواء وافق حُكْم قاضي البلد أو خالفه، وكّلَهما الزوجان بذلك أو لم يوكّلاهما.
والفِراق في ذلك طلاقٌ بائن.
وقال قوم: ليس لهما الطلاق ما لم يوكّلْهما الزوج في ذلك، وليعرّفا الإمام؛ وهذا بناء على أنهما رسولان شاهدان.
ثم الإمام يفرّق إن أراد ويأمر الحَكَم بالتفريق.
وهذا أحد قولي الشافعيّ؛ وبه قال الكوفيون، وهو قول عطاء وابن زيد والحسن، وبه قال أبو ثور.
والصحيح الأوّل، وأن للحكمين التطليقَ دون توكيل؛ وهو قول مالك والأُوزاعيّ وإسحاق ورُوي عن عثمان وعليّ وابن عباس، وعن الشَّعْبيّ والنَّخَعِيّ، وهو قول الشافعي؛ لأن الله تعالى قال: {فابعثوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} وهذا نص من الله سبحانه بأنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان.
وللوكيل اسم في الشريعة ومعنًى، ولِلحَكَم اسم في الشريعة ومعنًى؛ فإذا بيّن الله كل واحد منهما فلا ينبغي لشاذّ فكيف لِعالم أن يركّب معنى أحدهما على الآخر!.
وقد روى الدَّارَقُطْنِيّ من حديث محمد بن سِيرين عن عبَيدة في هذه الآية {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} قال: جاء رجل وامرأة إلى عليّ مع كل واحد منهما فِئام من الناس فأمرهم فبعثوا حَكَمًا من أهله وَحَكَمًا من أهلها، وقال للحكمين: هل تَدْرِيان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما.
فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولِي.
وقال الزوج: أما الفرقة فلا.
فقال عليّ: كذبت، والله لا تبرح حتى تُقِرّ بمثل الذي أقرّت به.
وهذا إسناد صحيح ثابت رُوي عن عليّ من وجوه ثابتة عن ابن سيرين عن عَبيدة؛ قاله أبو عمر.
فلو كانا وكيلين أو شاهدين لم يقل لهما: أتدريان ما عليكما؟ إنما كان يقول: أتدريان بما وُكِّلْتما؟ وهذا بيّن.
احتج أبو حنيفة بقول عليّ رضي الله عنه للزوج: لا تبرح حتى ترضى بما رضيت به.
فدلّ على أن مذهبه أنهما لا يفرقان إلا برضا الزوج، وبأن الأصل المجتمع عليه أن الطلاق بيد الزوج أو بيد من جعل ذلك إليه.
وجعله مالك ومن تابعه من باب طلاق السلطان على المَوْلى والعِنِّين. اهـ.

.قال الفخر:

هل يجوز للحكمين تنفيذ أمر يلزم الزوجين بدون إذنهما، مثل أن يطلق حكم الرجل، أو يفتدى حكم المرأة بشيء من مالها؟ للشافعي فيه قولان: أحدهما: يجوز، وبه قال مالك وإسحاق.
والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي حنيفة.
وعلى هذا هو وكالة كسائر الوكالات وذكر الشافعي رضي الله عنه حديث علي رضي الله عنه، وهو ما روى ابن سيرين عن عبيدة أنه قال جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه، ومع كل واحد منهما جمع من الناس، فأمرهم علي بأن يبعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: تعرفان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى فيما علي ولي فيه.
فقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به.
قال الشافعي رضي الله عنه: وفي هذا الحديث لكل واحد من القولين دليل.
أما دليل القول الأول فهو أنه بعث من غير رضا الزوجين وقال: عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا، وأقل ما في قوله: عليكما، أن يجوز لهما ذلك.
وأما دليل القول الثاني: أن الزوج لما لم يرض توقف على، ومعنى قوله: كذبت، أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تفعل ما فعلت هي.
ومن الناس من احتج للقول الأول بأنه تعالى سماهما حكمين.
والحكم هو الحاكم وإذا جعله حاكما فقد مكنه من الحكم، ومنهم من احتج للقول الثاني بأنه تعالى لما ذكر الحكمين، لم يضف إليهما إلا الإصلاح، وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوض إليهما. اهـ.

.قال القرطبي:

فائدة:
قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} أي شقاقا بين الزوجين، ثم إنه وإن لم يجر ذكرهما إلا أنه جرى ذكر ما يدل عليهما، وهو الرجال والنساء. اهـ.
قال القرطبي:
فإن اختلف الحكَمَان لم ينفذ قولهما ولم يلزم من ذلك شيء إلا ما اجتمعا عليه.
وكذلك كل حكمين حَكَمَا في أمر؛ فإن حكم أحدهما بالفرقة ولم يحكم بها الآخر، أو حكم أحدهما بمال وأبَى الآخر فليس بشيء حتى يتّفقا.
وقال مالك في الحكمين يطلِّقان ثلاثًا قال: تلزم واحدة وليس لهما الفراق بأكثر من واحدة بائنة؛ وهو قول ابن القاسم.
وقال ابن القاسم أيضًا: تلزمه الثلاث إن اجتمعا عليها؛ وقاله المغيرة وأشهب وابن الماجِشُون وأَصْبَغ.
وقال ابن الموّاز: إن حكم أحدهما بواحدة والآخر بثلاث فهي واحدة.
وحكى ابن حبيب عن أَصْبَغ أن ذلك ليس بشيء.
الخامسة ويجزئ إرسال الواحد؛ لأن الله سبحانه حكم في الزنى بأربعة شهود، ثم قد أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المرأة الزانية أُنَيْسًا وحده وقال له: «إن اعترفت فارجمها» وكذلك قال عبد الملك في المدوّنة.
قلت: وإذا جاز إرسال الواحد فلو حكّم الزوجان واحدًا لأجزأ، وهو بالجواز أوْلى إذا رضيا بذلك، وإنما خاطب الله بالإرسال الحُكّامَ دون الزوجين.
فإن أرسل الزوجان حَكَمين وحَكما نفذ حكمهُما؛ لأن التحكيم عندنا جائز، وينفذُ فعلُ الحكَم في كل مسألة.
هذا إذا كان كل واحد منهما عدلًا، ولو كان غير عدل قال عبد الملك: حكمه منقوض؛ لأنهما تخاطرا بما لا ينبغي من الغَرَر.
قال ابن العربي: والصحيح نفوذه؛ لأنه إن كان توكيلًا فِفْعل الوكيل نافذ، وإن كان تحكيمًا فقد قدّماه على أنفسهما وليس الغرر بمؤثّر فيه كما لم يؤثر في باب التوكيل، وبابُ القضاء مبنيٌّ على الغَرَر كله، وليس يلزم فيه معرفة المحكوم عليه بما يؤول إليه الحكم.
قال ابن العربي: مسألة الحكَمَين نصَّ اللَّهُ عليها وحَكَم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين، واختلاف ما بينهما.
وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأُمة على أصلها في البعث، وإن اختلفوا في تفاصيل ما ترتب عليه.
وعجبًا لأهل بلدنا حيث غَفَلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا: يُجعلان على يدي أمين؛ وفي هذا من معاندة النّص ما لا يخفى عليكم، فلا بكتاب الله ائتمروا ولا بالأقْيِسة اجتزأوا.
وقد ندبت إلى ذلك فما أجابني إلى بعث الحَكَمين عند الشقاق إلا قاضٍ واحد، ولا بالقضاء باليمين مع الشاهد إلا آخر، فلما ملّكني الله الأمر أجْريت السُّنّة كما ينبغي.